عين على سوريا

بين الماضي والحاضر: حافظ الأسد، بشار، والجولاني

لا توجد تعليقات

مفيد جرّأح 

2025/01/19

في أحد لقاءاته، خاطب حافظ الأسد الكاتب المسرحي سعد الله ونوس ومجموعة من المثقفين السوريين بعبارة تحمل استهزاءً مبطنًا قائلا لسعد الله: “أنت ترتدي نظارة سوداء، ولا ترى الواقع بوضوح”. كان ونوس يطالب بالديمقراطية والحريات ويحذر من أن القمع سيدمر البلاد، لكن الأسد الأب كان مقتنعًا أن حكمه الحديدي هو الصواب، متجاهلًا دعوات الإصلاح.

في آخر تصريح له من موسكو، كرر بشار الأسد المخلوع إنتاج خطاب والده. في بيانه على صفحة رئاسة الجمهورية، سعى إلى تقديم نفسه كزعيم وطني لم تهمه السلطة يوما بل مصلحة الشعب، مدعيًا أنه كان يقف في صف السوريين ضد الأزمات والتحديات. هذا الخطاب لا يختلف كثيرًا عن نهج والده، الذي ظل لعقود يتحدث عن مصلحة البلاد بينما يحكم بقبضة من حديد.  المضمون هو ذاته: استبداد يتقنع بشعارات وطنية تهدف إلى السلطة المطلقة. النظام الأسدي، كما يظهر في حالة الأسد الأب والابن، يقوم على أساس مشترك يتجاهل أصوات الشعب ويرفض أي محاولات للتغيير الحقيقي. حافظ الأسد اعتمد على القمع والتخويف لتثبيت سلطته، وبشار لم يحد عن هذه القاعدة، وإن كان قد صاغها بعبارات أقل فظاظة وأكثر تزييفًا. كلاهما اعتمد على الخطاب الوطني كوسيلة لتبرير ممارسات لا علاقة لها بمصلحة الوطن، بل بخدمة النظام وأركانه فقط.

اليوم في دمشق، يحاول الجولاني أن يقدم نفسه كبديل لهذه الديكتاتورية المتجذرة في سوريا، لكنه ربما يسير في طريق مشابه جدًا. ظهر الجولاني كزعيم يسيطر على إدلب بقبضة من حديد، حيث يتحكم في القضاء الأمن والاقتصاد وكل مفاصل القوة الرئيسية. ورغم أنه يروّج لنفسه كقائد براغماتي مستعد للتكيف مع الظروف الدولية، إلا أن أفعاله على الأرض في إدلب تعكس نهجًا لا يختلف كثيرًا عن نهج الأسد الأب أو الابن.

ما يجمع بين حافظ وبشار والجولاني ليس فقط رغبتهم في السيطرة المطلقة، بل أيضًا إيمانهم الراسخ بأنهم وحدهم القادرون على قيادة البلاد. حافظ تجاهل تحذيرات ونوس، وبشار تجاهل مطالب السوريين المستمرة بالتغيير، والجولاني بدوره يقدم نفسه كزعيم لا يمكن استبداله. القى باللوم على المعارضة التي راهنت على الخارج، في حين رابط هو على الارض، يعدّ العدة لتحرير دمشق، وفي لقائه مع الاعلاميين أخيرا حول مستقبله كرئيس لسوريا، قال أنه سيتنحى ويرتاح اذا لم يختاره الشعب للمنصب!

الجولاني قد لا يختلف في الجوهر، لكنه يختلف في الأسلوب. حافظ وبشار رفضا أي شكل من أشكال التعددية أو الحوار مع المعارضة، بينما يحاول الجولاني تقديم نفسه كزعيم مرن يتعامل مع التحديات الدولية والإقليمية ببراغماتية. ومع ذلك، هذا لا يعني أنه خرج من عباءة الاستبداد. في إدلب، شهدنا قمعًا واضحًا لكل من يحاول معارضته، بما في ذلك اعتقال وتصفيه منتقديه وفرض قوانين صارمة تخدم سيطرته على المنطقة.

تظهر براعة الجولاني في إدارة حملاته الإعلامية والدعائية، حيث يسعى دائمًا لإعادة تقديم نفسه كقائد مدني قادر على توحيد الصفوف وبناء مستقبل جديد. لكن وبينما يروج الجولاني لرؤية جديدة لسوريا، تظل المشاهد اليومية في إدلب شاهدة على انتهاكاته، حيث تقف النساء أمام السجون مطالبات بالإفراج عن أزواجهن وأبنائهن بينما يقابل السجانون هذه المطالب بالسخرية والرقص.

ما زلت أؤمن بأن أي حكومة، مهما كانت بدائية، تبقى أفضل من نظام الأسد. ليس فقط بسبب ديكتاتوريته ووحشيته، بل لأنه نظام آسن يفتقر إلى أي تجديد أو تطور. وهذا ما يخدم مصلحة الجولاني، فاي مقارنه ستنتصر له على حساب نظام الأسد. فهذا النظام لم يدمر فقط سمعة بشار الأسد، الذي تحول من رئيس مُحتفى به عالميًا إلى شخصية منبوذة، بل قاد البلاد بأكملها إلى الهاوية. ومع ذلك، فإن الجولاني لو حكم فرديا لن يكون حلًا بديلًا.

القمع، مهما كان مبرره أو وسائله، سيقود سوريا إلى مزيد من الدمار. لن تنهض البلاد إلا عندما يتخلى من يقفزون إلى مواقع القيادة عن ارتداء “النظارات السوداء” التي تعزلهم عن الواقع، ويبدأون في رؤية الشعب كصانع حقيقي للمستقبل، وليس كأداة لتحقيق طموحاتهم الشخصية. سوريا تحتاج إلى الحرية، وليس إلى زعماء يعيدون إنتاج نفس الأخطاء بأساليب ووجوه جديدة.

لكن هل سنعول على القياديين ليتخذوا قرارات حكيمة وفق رؤيتهم “الذكية”؟ يخبرنا التاريخ وقصص الجدات: أن أي شخص مهما كان عظيم الذكاء لا يمكنه دائما أن يجانب الصواب!

في ختام المشهد السوري، تظهر أهمية المراهنة على الشعب لا القيادة، وإدراك الشعب لمنفعته الجمعية كحجر الزاوية لبناء مستقبل مستدام وعادل. المنفعة الجمعية تعني أن مصلحة الجميع تتفوق على أي مصلحة فردية أو حزبية، وأن قوة الأمة تكمن في وعيها الجمعي بضرورة نظام يضع الشعب في مركز السلطة. نظام جامع، يكون فيه الشعب هو صاحب القرار النهائي، والرئيس أو أي مسؤول آخر موظف ينفذ إرادة هذا الشعب ويعمل لصالحه.

هذا الوعي ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية. يجب أن يتحول إلى قوة دافعة نحو إنشاء مؤسسات حقيقية تضمن الشفافية والمساءلة، وتوفر إطارًا قانونيًا ينظم الانتخابات الحرة والنزيهة. بالتوازي، يتطلب الأمر خطوات عملية نحو تطوير نظام سياسي واقتصادي يخدم المنفعة الجمعية، ويعزز من دور المواطنين كأفراد فاعلين في صنع القرارات الكبرى.

مفيد جرّاح
كاتب سوري

Tags: سوريا

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

إذا كان يبدو جيدًا جدًا ليكون صحيحًا، فهو على الأرجح ليس كذلك
الشرع في مواجهة الدولة: كيف يعيد سوريا إلى مسرح للتوحش!