عهد قنواتي

2025/01/14
تتردد هذه العبارة في ذهني كلما استمعت إلى أحاديث الجولاني عن “مجتمع مدني يحكمه القانون” و”دولة مؤسسات“، عبارات تُلامس أحلام الناس خاصة في المناطق التي عانت طويلا تحت سيطرة النظام، وتثير اهتمام الجماهير السورية في الخارج، وحتى جمهورًا دوليًا يراقب الوضع.
هل يمكن لتصريحات الجولاني أن تكون مجرد عبارات فارغة لتنويم الناس؟ أتمنى أن أكون مخطئًا، ولكن الخوف منطقي.
لا يجب أن تدفعنا فرحة التحرير إلى إغفال التفكير النقدي. فبعد كل ما شهدناه في السنوات الماضية من تغيرات في مواقف الجولاني وصعوده المتدرج، لا بد لنا أن نتساءل: هل يمكن لمن قادته مصالحه وصراعاته الدموية إلى السلطة أن يُعيد بناء بلد مزقته الحروب؟
تابعنا رحلة صعوده الميكيافيلية، بدءًا من علاقاته مع الزرقاوي، وصولًا إلى تعاونه مع داعش والقاعدة، و”انفصاله عنها”. شاهدنا كيف فرض قوانينه في إدلب بغير منأى عن سجل الانتهاكات، فقد عُرف باعتقاله لمعارضيه وتصفيتهم في بعض الأحيان. وفي الوقت الذي نسمع فيه وعوده بمستقبل أفضل، نشهد نساءً في إدلب يتظاهرن أمام السجون حيث يُحتجز أزواجهن وأبناؤهن، في مشهد مأساوي يتفاقم عندما يسخر السجانون منهن بالرقص والتشفي.
هذه المشاهد تعيد للأذهان القمع الذي مورس على الإخوان المسلمين في السابق، والذي استنكره معظم السوريين دون أن يعني ذلك إعجابهم بأفكار الإخوان. كما تعاطف كثر مع أعضاء حزب العمل الشيوعي (الرابطة) عندما تحدثوا عن معاناتهم في السجون، دون أن يكونوا ماركسيين. ليس من الضروري أن تكون مؤيدًا لحزب التحرير حتى تتضامن مع نساء يطالبن برجالهن، حرية التعبير وحق التظاهر وعدم التهاون مع السجن بسبب الرأي، مهما كان، هي مبادئ لا تقبل الانتقائية أو الانحياز. الدفاع عن هذه المبادئ يعني الدفاع عنا جميعاً، وليس فقط عن من يشبهنا أو يتفق معنا.
ما زلت أؤمن بما قلته قبل 13 عامًا: “أي حكومة أفضل من نظام الأسد“ ليس فقط بسبب ديكتاتوريته ووحشيته، بل لأنه نظام آسن يفتقر للحياة والتجديد. هذا الجمود حوّل بشار الأسد من رئيس مُحتفى به عالميًا إلى أكثر رئيس مكروه.
نظام تمسّك برئيس متهور، واختار مسارات مدمرة مرارًا، رافضًا أي تسوية لا تضمن له سلطة مطلقة. بالنسبة له، الشعب مجرد أدوات لتمجيده، حتى لو كان الثمن استدراج قوى إقليمية تسرق البلاد وتعقد مؤتمرات عن سوريا هو غائب عنها.
ليس لدي أي ثقة بهيئة تحرير الشام، ولا أعتقد أن إعادة تقديم الجولاني لنفسه أو محاولاته لإبراز صورة “القائد المدني” ستُغير من واقع أفعاله أو سجل انتهاكاته، ولست مع فكرة لنعطيه المزيد من الوقت.
براعة الجولاني في إدارة الحملات الدعائية واضحة ولم تعد تفاجئ متابعيه، لكن هذه البراعة في الترويج لنفسه لا تُبرر منح الثقة أو التريث لانتظار ما سيحدث.
من وجهة نظري، كل إنسان هو نتاج البيئة التي يعيش فيها، ضحية وجندي للنظام والمجتمع المحيط به. سواء كان طبيبًا، مهندسًا، تاجرًا، فنانًا، أو حتى سياسيًا، نُشكَّل جميعًا وفق السياق الذي ينمّي فينا أدوارًا معينة تشجعنا على تطويرها لنتمكن من البقاء والتكيف مع محيطنا.
وبعيدا عن الخوف من المتطرفين، أو التدخل الخارجي، والقوى الاقليمية الغولة من حولنا، هناك تحديات داخلية أكثر تعقيدًا: الهتافات الطائفية والعنترية في محافظتي اللاذقية وطرطوس، استعراض القوة ببيكابات الرشاشات، القتل الانتقامي، الشماتة والتشفي، وسردية المظلوم، تحديد من ايديهم ملطخة بالدماء ومحاسبتهم… كلها تشير إلى أن طريق المصالحة والعفو طويل جدا ومرّ.
على كل ذلك، أعتقد أن ما يمكن أن يجدي في هذه المرحلة، بعد الإفراج عن كل المعتقلين والمغيبين قسرا، هو التركيز على توثيق كل انتهاك يحدث، والتنديد به، والسعي الحثيث لمحاسبة مرتكبيه. وخصوصا انتهاكات القوى الحاكمة الجديدة، ربما تكون هذه الخطوات هي الطريق الأقصر والأقل ألمًا نحو بناء سوريا تتسع للجميع، بدلًا من أن تبقى مجرد مزرعة تحكمها قوة جديدة مستبدة.
أن نعمل جميعا على بناء دولة مؤسسات حقيقية تعيد للشعب السوري دوره كمصدر للقوة والتجديد، بدلاً من أن يظل مجرد أداة في يد أنظمة أو جماعات تسعى للهيمنة على السلطة. في هذه المرحلة، هناك دور حاسم يجب أن يؤديه كل من شارك في النشاط المدني والسياسي، من خلال تشكيل قوة سورية مضادة قادرة على منع أي شكل جديد من أشكال عبادة الفرد في سوريا، وضمان ألا يُعاد إنتاج الاستبداد تحت أي مسمى.



